فصل: كتاب النكاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب تضمين العارية:

قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي ثم إن الحسن نسي قال هو أمينك لا ضمان عليه».
قال الشيخ في هذا الحديث دليل على أن العارية مضمونة وذلك أن على كلمة إلزام وإذا حصلت اليد أخذه صار الأداء لازمًا لها والأداء قد يتضمن العين إذا كادت موجودة والقيمة إذا صارت مستهلكة ولعله أملك بالقيمة منه بالعين.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن محمد وسلمة بن شبيب قالا: حَدَّثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعًا يوم حنين فقال اغصبًا يا محمد قال لا بل عارية مضمونة».
قال الشيخ وهذا يؤكد ضمان العارية وفي قوله: «عارية مضمونة» بيان ضمان قيمتها إذا تلفت لأن الأعيان لا تضمن ومن تأوله على أنها تؤدي ما دامت باقية فقد ذهب عن فائدة الحديث.
وقال قوم إذا اشترط ضمانها صارت مضمونة فإن لم يشترط لم يضمن وهذا القول غير مطابق لمذاهب الأصول والشيء إذا كان حكمه في الأصل على الأمانة فإن الشرط لا يغيره عن حكم أصله ألا ترى أن الوديعة لما كانت أمانة كان شرط الضمان فيها غير مخرج لها عن حكم أصلها وإنما كان ذكر الضمان في حديث صفوان لأنه كان حديث العهد بالإسلام جاهلًا بأحكام الدين فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من حكم الإسلام أن العواري مضمونة ليقع له الوثيقة بأنها مردودة عليه غير ممنوعة منه في حال.
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: حَدَّثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم».
قال الشيخ قوله: «مؤداة» قضية إلزام في أدائها عينًا حال القيام وقيمة عند التلف وقوله: «المنحة مردودة» فإن المنحة هي ما يمنحه الرجل صاحبه من أرض يزرعها مدة ثم يردها أو شاة يشرب درها ثم يردها على صاحبها أو شجرة يأكل ثمرتها وجملتها أنها تمليك المنفعة دون الرقبة وهي من معنى العواري وحكمها الضمان كالعارية.
وفيه دليل على أن المنحة إذا كانت مما ينقل ويلزم في نقلها مؤنة من كراء أو أجرة فإن جميع ذلك على الممنوح له لأنه قد اشترط عليه ردها وهي لا تكون مردودة حتى تصل إلى صاحبها. والزعيم الكفيل والزعامة الكفالة ومنه قيل لرئيس القوم الزعيم لأنه هو المتكفل بأمورهم.
وقد اختلف الناس في تضمين العارية فروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما سقوط الضمان فيها وقال شريح والحسن وإبراهيم لا ضمان فيها وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه.
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة أنهما قالا هي مضمونة وبه قال عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل.
وقال مالك بن أنس ما ظهر هلاكه كالحيوان ونحوه غير مضمون وما خفي هلاكه من ثوب ونحوه فهو مضمون.

.ومن باب من أفسد شيئًا يضمن مثله:

قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى عن سفيان قال: حدثني فليت العامري عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها «ما رأيت صانعًا طعامًا مثل صفية صنعت طعامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثت به فأخذني أفْكَل فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت قال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام».
قال الشيخ يشبه أن يكون هذا من باب المعونة والإصلاح دون بت الحكم بوجوب المثل فإن القصعة والطعام المصنوع ليس لهما مثل معلوم. ثم إن هذا طعام وإناء حملا من بيت صفية وما كان في بيوت أزواجه من طعام ونحوه فإن الظاهر منه والغالب عليه أنه ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمرء أن يحكم في ملكه وفيما تحت يده مما يجري مجرى الأملاك فيما يراه أرفق إلى الصلاح وأقرب وليس ذلك من باب ما يحمل عليه الناس من حكم الحكام في أبواب الحقوق والأموال، وفي إسناد الحديث مقال ولا أعلم أحدًا من الفقهاء ذهب إلى أنه يجب في غير المكيل والموزون مثل إلاّ أن داود يحكى عنه أنه أوجب في الحيوان المثل وأوجب في العبد العبد، وفي العصفور العصفور وشبهه بحمار الصيد.
قال الشيخ والذي ذهب إليه في ذلك خلاف مذاهب عامة العلماء والحكم في جزاء الصيد حكم خاص في التقييد وحقوق الله تعالى تجري فيها المساهلة ولا تحمل على الاستقصاء وكمال الاستيفاء كحقوق الآدميين، وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم في المعتق شركًا له في عبد القيمة لا المثل فدل هذا على فساد ما ذهب إليه والأفْكَل الرِعدة.

.ومن باب المواشي تفسد زرع قوم:

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه «أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل».
قال الشيخ وهذه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في هذا الباب، ويشبه أن يكون إنما فرق بين الليل والنهار في هذا لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار ويوكلون بها الحفاظ والنواطير. ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحوها بالنهار ويردونها مع الليل إلى المراح فمن خالف هذه العادة كان به خارجًا عن رسوم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع أو تركه في غير موضع حرز فلا يكون على آخذه قطع.
وبالتفريق بين حكم الليل والنهار قال الشافعي.
وقال أصحاب الرأي لا فرق بين الأمرين ولم يجعلوا على أصحاب المواشي غرمًا، واحتجوا بقول العجماء جبار.
قال الشيخ وحديث العجماء جبار عام وهذا حكم خاص والعام ينبئ على الخاص. ويرد إليه فالمصير في هذا إلى حديث البراء والله أعلم.

.كتاب النكاح:

.ومن باب التحريض على النكاح:

قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى إذ لقيه عثمان فاستحلاه فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة قال لي تعال يا علقمة فجئت فقال له عثمان ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن بجارية بكرًا لعله يرجع إليك عن نفسك ما كنت تعهد، فقال عبد الله لئن قلت ذلك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من استطاع منكم الباءة فليزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم فإنه له وجاء».
قال الشيخ الباءة كناية عن النكاح، وأصل الباءة الموضع الذي يأوي إليه الإنسان، ومنه اشتق مباءة الغنم وهو المراح الذي تأوي إليه عند الليل، والوجاء رض الأنثيين والخصا نزعهما.
وفيه من الفقه استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه، وفيه دليل على أن النكاح غير واجب، ويحكى عن بعض أهل الظاهر أنه كان يراه على الوجوب وفيه دليل على جواز التعالج لقطع الباءة بالأدوية ونحوها.
وفيه دليل على أن المقصود في النكاح الوطء وأن الخيار في العُنَّة واجب.

.ومن باب ما يؤمر من تزويج ذات الدين:

قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد قال: حدثني عبيد الله قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تنكح النساء لأربع لمالها ولحسبها ولدينها ولجمالها فاظفر بذات الدين تربت يداك».
قال الشيخ فيه من الفقه مراعاة الكفاءة في المناكح وأن الدين أولى ما اعتبر فيها.
وقوله تربت يداك كلمة معناها الحث والتحريض وأصل ذلك في الدعاء على الإنسان، يقال ترب الرجل إذا افتقر وأترب إذا أثرى وأيسر، والعرب تطلق ذلك في كلامها ولا يقصد بها وقوع الأمر.
وزعم بعض أهل العلم إن القصد به في هذا الحديث وقوع الأمر وتحقيق الدعاء. وأخبرني بعض أصحابنا عن ابن الأنباري أحسبه رواه عن الزهري أنه قال إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك لأنه رأى أن الفقر خير من الغنى.
واختلف العلماء في تحديد الكفاءة فقال مالك بن أنس الكفاءة في الدين وأهل الإسلام كلهم بعضهم لبعض أكفاء وهو غالب مذهب الشافعي، وقد اعتبر فيها أيضًا الحرية وربما اعتبر غير ذلك أيضًا.
وقد روي معنى قول مالك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير وعمر بن عبد العزيز وابن سيرين وابن عون وحماد بن أبي سليمان.
وقال سفيان الثوري الكفاءة الدين والحسب، وكان يرى التفريق إذا نكح المولى عربية، وكذلك قال أحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأي قريش بعضهم لبعض أكفاء وكل من كان من الموالي له أبوان أو ثلاثة في الإسلام فبعضهم لبعض أكفاء، وإذا أعتق عبد أو أسلم ذمي فإنه ليس بكفء لامرأة لها أبوان أو ثلاثة في الإسلام من الموالي. وإذا تزوجت المرأة غير كفؤ فسلم أحد من الأولياء فليس لمن بقي من الأولياء أن يفرقوا بينهما.
وروي عن ابن عباس أنه لم ير المولى كفؤًا للعربية، وروي مثل ذلك عن سلمان الفارسي.

.ومن باب تزويج الأبكار:

قال أبو داود: كتب إلي حسين بن حريث المروزي حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال غربها قال أخاف أن تتبعها نفسي، قال فاستمتع منها».
قال الشيخ قوله: «لا تمنع يد لامس»، معناه الريبة وأنها مطاوعة لمن أرادها لا ترد يده وقوله: «غربها» معناه أبعدها يريد الطلاق وأصل الغرب البعد.
وفيه دليل على جواز نكاح الفاجرة وإن كان الاختيار غير ذلك.
وأما قوله: {والزانية لا ينكحنها إلاّ زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} النور: 3: فإنما نزلت في امرأة من الكفار خاصة وهي بغي بمكة يقال لها عناق، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
ومعنى قوله: «فاستمتع منها» أي لا تسمها إلاّ بقدر ما تقضي متعة النفس منها ومن وطئها والاستمتاع من الشيء الانتفاع به إلى مدة، ومن هذا نكاح المتعة الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه قوله تعالى: {إنما هذه الحياة الدنيا متاع} [غافر: 39] أي متعة إلى حين ثم تنقطع.

.ومن باب الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها:

قال أبو داود: حدثنا عمر بن عون، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن قتادة وعبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها».
قال الشيخ قد ذهب غير واحد من العلماء إلى ظاهر هذا الحديث ورأوا أن من أعتق أمة كان له أن يتزوجها بأن يجعل عتقها عوضًا عن بعضها، وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري وإبراهيم النخعي والزهري وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحكى ذلك أيضًا عن الأوزاعي.
وكره ذلك مالك بن أنس وقال هذا لا يصلح، وكذلك قال أصحاب الرأي.
وقال الشافعي إذا قالت الأمة أعتقني على أن أنكحك وصداقي عتقي فأعتقها على ذلك فلها الخيار في أن تنكح أو تدع ويرجع عليها بقيمتها فإن نكحته ورضيت بالقيمة التي عليها فلا بأس.
وتأول هذا الحديث من لم يجز النكاح على أنه خاص للنبي صلى الله عليه وسلم إذ كانت له خصائص في النكاح ليست لغيره وقال بعضهم معناه أنه لم يجعل لها صداقا؛ وإنما كانت في معنى الموهوبة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بها، إلاّ أنها لما استبيح نكاحها بالعتق صار العتق كالصداق لها وهذا كقول الشاعر:
وأُمهرن أرماحًا من الحظ ذبلاُ

أي استبحن بالرماح فصرن كالمهيرات، وكقول الفرزدق.
وذات حليل أنكحتنا رماحنا ** حلالًا لمن يَبني بها لم تطلق

واحتج أهل المقالة الأولى بأنها لو قالت طلقني على أني أخيط لك ثوبًا لزمها ذلك إذا طلقها: فكذلك إذا قالت أعتقني على أن أنكحك.
وحكوا عن أحمد بن حنبل أنه قال لا خلاف أن صفية كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل من نكاحها غير هذه اللفظة فدل أنها سبب النكاح.
قال الشيخ وأجاب عن الفصل الأول بعض من خالفهم فقال إنما صح هذا في الثوب لأنه فعل والفعل يثبت في الذمة كالعين والنكاح عقد والعقد لا يثبت في الذمة والعتق على النكاح كالسلم فيه ولو أسلم رجل امرأة عشرة دراهم على أن يتزوج بها لم يصح كذلك هذا.
فأما الفصل الآخر وهو ما حكي عن أحمد فقد يحتمل أن يكون ذلك خصوصًا للنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قد استأنف عقد النكاح عليها ولم ينقل ذلك مقرونًا بالحديث لأن من سنته صلى الله عليه وسلم أن النكاح لا ينعقد إلاّ بالكلام أو بما يقوم مقامه من الإيماء في الأخرس ونحوه، ويحمل ما خفي من ذلك على حكم ما ظهر، وروي أنه نكحها وجعل عتقها صداقها فإن ثبت ذلك فلا حاجة بنا معه إلى التأويل والله أعلم.